بعد سقوط النظام.. ما الذي سيحل بإمبراطورية الكبتاغون التي أقامها الأسد؟

في مطلع شهر كانون الأول الفائت، دخل مقاتلو المعارضة العاصمة السورية دمشق ليمثل ذلك ذروة الهجوم الخاطف الذي سيطروا من خلاله على أجزاء شاسعة من البلد في غضون أحد عشر يوماً، كان آخرها ذلك الذي فر خلاله الدكتاتور بشار الأسد إلى موسكو على متن إحدى الطائرات، غير أن الإطاحة بالأسد كشفت عن وجود تجارة مخالفة لكل القوانين متأصلة ضمن نظامه، ألا وهي تجارة الكبتاغون.
منذ أواخر العشرية الأولى من الألفية الثالثة، تورط نظام الأسد في إنتاج الكبتاغون والاتجار به، فتحولت تجارة الكبتاغون إلى شريان حياة يمد دمشق بما يلزمها من أموال خلال الحرب السورية، ويقوض مفاعيل العقوبات الدولية. وقد أخذ النظام ينسق لتجارته تلك عبر أجهزته وفروعه الأمنية، وعلى رأسها الفرقة الرابعة مدرعات والآمرية الجوية، وكذلك من خلال أقرباء الأسد وأعوانهم من طبقة رجال الأعمال.
الكبتاغون وأجندة التطبيع
وبدعم من القطاعات التجارية والأمنية والسياسية في البلد، ازدهرت تجارة الكبتاغون في سوريا، كما أسهم أعوان النظام المخلوع في المجالات الزراعية والمستحضرات الدوائية والصناعية بتصنيع تلك الحبوب وتعليبها وإخفائها بين السلع المشروعة، وسهلت فروع الأمن عملية نقلها كما ضمنت الحصانة أمام القانون. وفي تلك الأثناء، ظل وزراء النظام يرددون السردية الصارمة نفسها بشأن مكافحة المخدرات، فأنكروا بذلك وجود صناعة للكبتاغون في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة النظام.
وبحلول العشرية الثالثة من الألفية الثالثة، أصبحت تجارة الكبتاغون تدر عشرة مليارات دولار، كما استعان النظام بهذه التجارة كورقة ضغط سياسية، إذ عبر إغراق الأسواق المحافظة في منطقة الخليج بالكبتاغون، وإثارة الاستفزازات التي تدفع لقيام اشتباكات على الحدود السورية مع الأردن، سعى نظام الأسد للضغط على دول الجوار من أجل الدخول في مفاوضات للتطبيع معه ولتخفيف العقوبات المفروضة عليه.
أصبح هذا الأسلوب واضحاً وضوح الشمس في ربيع وصيف عام 2023، وذلك عندما أصبح الكبتاغون العنصر الأهم ضمن أجندة مفاوضات التطبيع بين نظام الأسد من جهة وبين الأردن والسعودية وغيرها من دول المنطقة من جهة أخرى. فاستغل النظام التهديد بإغراق حدود دول الجوار بالمخدرات وجر خفر حدودها لمواجهات في أثناء عمليات التهريب وذلك للوقوف ضد المطالب المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، وضد كل من يتحدث عن العلاقة التي تربط بين سوريا وإيران، ومن أجل تطوير العلاقات الإقليمية على نطاق أوسع.
بيد أن هذه الاستراتيجية منيت بالفشل على الرغم أن سوريا تمكنت من العودة إلى الجامعة العربية من جديد، كما أحجمت دول الجوار عن التدخل لصالح نظام الأسد عندما عملت قوى المعارضة على تفكيك النظام.
مخابئ الكبتاغون في سوريا
واليوم، بدأت قوى المعارضة وأهالي تلك المناطق بالكشف عن الأدلة التي تثبت تورط النظام بشكل كبير في تجارة الكبتاغون، فقد اقتحموا القصور والشقق الفارهة والسجون ومقار الاحتجاز والقواعد العسكرية بل حتى مرائب السيارات الفارهة التي تعود للأسد وأعوانه، فاكتشفوا وجود مخابئ ضخمة لحبوب الكبتاغون ومعدات تصنيعها.
ففي مطار المزة العسكري الذي كان آل الأسد يستخدمونه في كثير من الأحيان وكذلك الحرس الجمهوري وآمرية الطيران، اكتشفت قوات الأمن العام السوري وجود الملايين من أقراص الكبتاغون فعملت على إتلافها. وفي اللاذقية، اقتحم الأهالي شركة لتجارة السيارات، تعود ملكيتها لمنذر الأسد وهو أحد أفراد عائلة الأسد المعروفين، فعثروا على الآلاف من تلك الأقراص التي سارعوا إلى رميها في الشوارع في مجاري الصرف الصحي. وفي دوما، اكتشف الأهالي وعناصر هيئة تحرير الشام أكبر موقع لتصنيع الكبتاغون في سوريا، والذي كان في السابق مصنعاً لإنتاج رقائق البطاطس، وتعود ملكيته لماهر شقيق الأسد، ولعامر خيتي وهو رجل أعمال تابع للنظام.
سياسة الهيئة في مكافحة المخدرات
في الثامن من كانون الأول الماضي، ألقى قائد الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، خطاب النصر في الجامع الأموي التاريخي، فحدد خلاله أهداف حكمه في سوريا، وذكر بأن سوريا تحولت إلى “مصنع” للكبتاغون في ظل حكم الأسد، لذا كان لابد من “تطهيرها” على حد تعبيره، وأشار من خلال تصريحاته إلى موقف “الهيئة” تجاه سياسة مكافحة المخدرات، إذ قبل أن توسع سيطرتها خارج حدود إدلب، وكانت تركز على منع تجارة المخدرات المرتبطة بالنظام، ولاسيما على الطريق الموصل لتركيا وشمال شرقي سوريا، بما أن هذين الطريقين أصبحا ممرين معروفين أمام هذه التجارة نحو العراق. كما أن معظم ما ضبطته الهيئة من شحنات الكبتاغون في مطلع العشرية الثالثة من الألفية الثالثة أكد في معظم الأحيان تورط النظام في تلك العمليات بشكل مباشر.
مع حرص الإدارة الجديدة على استقطاب الدعم والاستثمار الدولي في سوريا، قد تتبنى قيادتها استراتيجية تقوم على اكتشاف وفضح مواقع الكبتاغون ثم التخلص منها خلال المرحلة الحالية، ويشمل ذلك الكشف عن مراكز تصنيع الكبتاغون التي أقامها نظام الأسد ومن ثم تفكيكها، بيد أن هذه الاستراتيجية قد تحتاج لأشهر وتتطلب موارد هائلة، كما أنها يمكن أن تهدد النوايا السياسية الحسنة تجاه المجتمعات المحلية والتي باتت الحكومة الجديدة بأمس الحاجة إليها.
قد تحتاج الإدارة الجديدة أيضاً لأن تبدي التزامها على المدى البعيد بمكافحة شبكات الكبتاغون وعصاباته، إذ قد لا تتمكن من القضاء بشكل كامل على مختبرات الكبتاغون الصغيرة أو حرمان مسؤولي النظام السابقين الذين شملهم العفو من مواصلة عملياتهم خلال العملية الانتقالية أو بعدها.
الحل الأول: إحياء قطاع صناعة الأدوية
ولعل مستقبل سوريا في هذا المضمار يكمن في إحياء قطاع الصناعات الدوائية، إذ قبل الحرب، كانت سوريا دولة رائدة على الصعيد الإقليمي في تصنيع الأدوية، ولهذا يجب أن تركز عمليات إعادة الإعمار على إحياء مخابر الكبتاغون ومستودعاته وذلك لخلق فرص عمل أمام النازحين المهرة ولمساعدة سوريا على العودة لمكانتها السابقة عندما كانت إحدى الدول المصدرة للأدوية في المنطقة. كما أن إعادة توجيه القوى العاملة والخبرات التي ارتبطت في السابق بإنتاج الكبتاغون نحو عمليات تصنيع المستحضرات الدوائية المشروعة يجب أن تصبح من أهم أهداف مكافحة المخدرات بالنسبة للولايات المتحدة وشركائها في سوريا.
الحل الثاني: تخفيف العقوبات
بيد أن هذه الاستراتيجية يجب أن تعتمد ولو بصورة جزئية على تخفيف العقوبات المفروضة على قطاعات معينة من الاقتصاد، ولاسيما تلك المفروضة على الصناعات الدوائية في سوريا بما أنها حرمت البلد من شراء المواد الخام اللازمة لصناعة الأدوية المشروعة. لذا، يمكن للولايات المتحدة وشركائها أن يلعبوا دوراً مهماً في التشجيع على إعادة بناء البنية التحتية للصناعات الدوائية وخطوط الإنتاج واقتصاد التصدير في سوريا كما بوسعها تقديم الدعم المادي لتحقيق ذلك.
لا يوجد لدى الإدارة السورية الجديدة أي مصلحة أو إمكانية تخولها رفع الضرر الكبير الذي ترتب حتماً على تجارة الكبتاغون، واحتمال توسع إنتاج هذا المخدر ووصول عملية الاتجار به إلى دول أخرى من بينها العراق وتركيا والكويت ولبنان، إذ تركز الإدارة حالياً على إدارة العملية السياسية الانتقالية في سوريا مع السيطرة على نقاط التفتيش الحدودية، والحصول على دعم وتأييد من المجتمع المحلي، ولهذا فإنه من المرجح لها أن تتوفر بين يديها السبل لاستهداف العناصر الفاعلة الكبرى في تصنيع المخدرات بطريقة غير مشروعة في حال رغب قادة الهيئة بتحقيق ذلك، إلا أن الجهات الفاعلة الأصغر ستظل قادرة على استغلال الثغرات التي ظهرت منذ فترة قريبة عند تنفيذ عمليات مكافحة المخدرات.
تجارة الكبتاغون لما تنته بعد
غالباً ما تدفع كبريات الأحداث الجيوسياسية العصابات الإجرامية التي تتسم بالإبداع والريادة إلى التكيف مع الأوضاع والبحث عن طرق بديلة للاتجار بما تعمل به، مع البحث عن مراكز جديدة للتصنيع بالإضافة إلى بحثها عن أسواق جديدة. فلقد أسست العناصر الإجرامية مواقع لإنتاج الكبتاغون والاتجار به في كل من لبنان والعراق وتركيا والكويت، بل حتى في أوروبا، وجعلتها قريبة من الأسواق الاستهلاكية في الخليج وغيره.
ومن المرجح لهذه العناصر أيضاً أن توسع من عملية غسل الأموال التي تترتب على هذه التجارة، بما يساعد تجار المخدرات على إخفاء الأموال عبر الاستعانة بمشاريع تجارية مشروعة ومراكز إنتاج جديدة. ولذلك يمكن لمراكز الكبتاغون الناشئة في كل من لبنان والعراق وتركيا والخليج أن تستغل الطرق التجارية في المنطقة، عبر الاستعانة بأرقام الصادرات الزراعية مثلاً لإخفاء الكبتاغون وعوائده. أما مناطق التجارة الحرة الموجودة في الإمارات أو تركيا فيمكنها تسهيل التحويلات المالية بصورة أكبر، ومع غياب التنسيق الدولي الشديد وعدم فرض قوانين مالية أشد صرامة، يمكن لتلك العصابات والشبكات أن تتأقلم مع الوضع وأن تزيد من تنوعها وغناها.
إن سقوط الأسد يعني بأن سوريا لم تعد دولة مخدرات كما كانت في عهده، إلا أن ذلك لا يعني بأن تجارة الكبتاغون قد انتهت، بل تعقدت أمورها أكثر، إذ في ظل غياب مراكز إنتاج الكبتاغون الموجودة في سوريا، لم يعد تجار الكبتاغون مقيدين بمكان، بل بوسعهم توسيع عملياتهم خارج سوريا لتصل إلى وجهات غير معلومة.
للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر