إيطاليا تدرس سياسات لدعم الأسر وتشجيع الإنجاب

القاهرة: هاني كمال الدين
تشهد إيطاليا في الآونة الأخيرة أزمة ديموغرافية حادة تدفع بالسلطات إلى التفكير في اتخاذ إجراءات صارمة للتعامل مع تراجع معدلات الولادة. في هذا السياق، دعا رئيس المؤسسة الإيطالية لتعزيز معدلات الولادة، جيجي دي بالو، إلى تطبيق “علاج صدمة” من أجل مواجهة هذا التحدي الكبير. وقد أوضح في تصريحاته التي نقلتها صحيفة “The Times” أن إيطاليا بحاجة إلى “سياسة ديموغرافية شاملة”، تقوم على تضافر الجهود بين الشركات والبنوك والبلديات وحتى المعارضة السياسية، لتتمكن البلاد من معالجة انخفاض معدلات الولادة المتزايد وتأثيراته على المجتمع والاقتصاد.
الحاجة إلى علاج صدمة
أشار جيجي دي بالو إلى أن تكلفة تربية طفل في إيطاليا حتى يبلغ سن 18 عامًا تصل إلى حوالي 178 ألف يورو. وأضاف أنه بعد هذا الجهد والاستثمار الضخم من قبل الأسر، يختار الكثير من الشباب الهجرة إلى الخارج لتعزيز الناتج المحلي الإجمالي لدول أخرى، مما يزيد من الأزمة الاقتصادية التي تواجهها إيطاليا. وأضاف أن مقارنة بسيطة مع فرنسا، التي تتصدر أوروبا في معدلات الولادة، تظهر أن تلك الدول تتبع سياسات تخفيض الضرائب للعائلات بناءً على عدد الأطفال، وهو ما يساهم بشكل كبير في تشجيع الأسر على إنجاب المزيد من الأطفال.
انخفاض مستمر في معدلات الولادة
تشير البيانات الرسمية إلى أن معدلات الولادة في إيطاليا انخفضت بشكل ملحوظ خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي، حيث سجلت تراجعًا بنحو 4600 طفل مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، مما يعادل انخفاضًا نسبته 2.1%. وفي عام 2023، بلغ عدد المواليد 379,890 مولودًا فقط، وهو ما يمثل انخفاضًا بأكثر من الثلث مقارنة بعام 2008. منذ الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008، شهدت إيطاليا انخفاضًا مستمرًا في معدلات الولادة عامًا بعد عام، ما أثار قلق الحكومة الإيطالية بشأن تأثير هذا الاتجاه على الاقتصاد الوطني.
تحديات اقتصادية وديموغرافية
يُعتبر التراجع في معدلات الولادة أحد أكبر التحديات التي تواجه إيطاليا اليوم. فمع انخفاض أعداد المواليد وزيادة متوسط العمر، فإن البلاد تواجه عبئًا متزايدًا على نظام الرعاية الاجتماعية. هذا الأمر يضع الحكومة أمام معضلة كبيرة، حيث يتعين عليها التعامل مع زيادة عدد كبار السن الذين يحتاجون إلى دعم مادي وصحي، في مقابل انخفاض عدد القوى العاملة القادرة على دعم هذه الفئة. إن استمرار هذه الديناميكية يهدد بأن يتحول العبء المالي الذي تتحمله الدولة إلى مستوى غير مستدام، مما يفرض ضغوطًا إضافية على الميزانية العامة.
إحصائيات وتحليلات
وفقًا للبيانات الرسمية التي نشرتها هيئة الإحصاء الوطنية الإيطالية (Istat)، فإن معدل الخصوبة في إيطاليا حاليًا يبلغ 1.21 طفل لكل امرأة. وإذا استبعدنا الولادات التي تحدث بين الأسر الإيطالية المقيمة في الخارج، فإن هذا المعدل ينخفض إلى 1.14. تُعد هذه النسبة أقل بكثير مما هو مطلوب للحفاظ على استقرار الاقتصاد، حيث يُعتقد أن المعدل الضروري للحفاظ على استقرار النمو الاقتصادي والسكاني هو 2.1 طفل لكل امرأة.
وتشير الدراسات أيضًا إلى أن النساء الإيطاليات يفضلن تأخير إنجاب أول طفل إلى سن 30 عامًا تقريبًا. وهذا الاتجاه يعود إلى عدة عوامل، من بينها الصعوبات التي يواجهنها في العثور على عمل مستقر ومسكن مناسب. إن هذه التحديات الاقتصادية تجعل الكثير من النساء يترددن في اتخاذ قرار الإنجاب، مما يفاقم من حدة الأزمة الديموغرافية التي تواجهها البلاد.
جهود الحكومة وتوقعات المستقبل
لم تتوقف الحكومة الإيطالية عند مجرد تسجيل هذه الظاهرة، بل بدأت تفكر في سياسات جديدة لمواجهة التحدي. ومع أن جيجي دي بالو دعا إلى “علاج صدمة” يتطلب تعاون كل الأطراف المعنية، إلا أن هذا المقترح لا يزال في مراحل النقاش الأولى. وتهدف هذه السياسة المقترحة إلى خلق بيئة تشجع على الإنجاب من خلال تقديم حوافز مالية وضريبية للأسر، وضمان توفير دعم أفضل في مجالات التعليم والصحة والسكن.
نماذج أوروبية ناجحة
تعتبر إيطاليا من بين الدول الأوروبية التي تواجه انخفاضًا مستمرًا في معدلات الولادة، لكنها ليست الوحيدة. ففي بلدان مثل فرنسا وألمانيا، تم تبني سياسات مشجعة على الإنجاب أدت إلى تحسين معدلات الولادة. في فرنسا، على سبيل المثال، تعتمد الحكومة سياسة تخفيض الضرائب وفقًا لعدد الأطفال في الأسرة، بالإضافة إلى دعم حكومي كبير للأسر التي لديها أطفال في مجالات التعليم والرعاية الصحية. وقد ساهمت هذه السياسات في جعل فرنسا تتصدر معدلات الولادة في أوروبا، وهو ما يدعو المسؤولين الإيطاليين إلى النظر بجدية في تبني استراتيجيات مماثلة.
الهجرة الداخلية والخارجية
في حين تواجه إيطاليا انخفاضًا في معدلات الولادة، فإنها تواجه أيضًا تحديًا آخر يتمثل في هجرة الشباب. فالكثير من الشباب الإيطاليين يختارون مغادرة البلاد بحثًا عن فرص عمل أفضل في الخارج، مما يؤدي إلى “هجرة العقول” التي تحرم إيطاليا من القوى العاملة الشابة التي تحتاجها لتعزيز الاقتصاد الوطني. بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض المدن الإيطالية تشهد هجرة داخلية، حيث يفضل الكثير من الشباب الانتقال إلى مدن كبرى مثل ميلانو وروما بحثًا عن فرص عمل وتعليم أفضل، ما يؤدي إلى تفريغ المناطق الريفية من سكانها وزيادة التفاوت بين المناطق المختلفة في البلاد.
دعوات للتغيير الجذري
تشير الأرقام إلى ضرورة اتخاذ إجراءات فورية لمعالجة هذه الأزمة. فالتراجع المستمر في معدلات الولادة، إلى جانب زيادة متوسط العمر المتوقع للسكان، يشكلان معضلة كبيرة تتطلب حلولاً جذرية وسريعة. ويعتقد بعض الخبراء أن الإجراءات الاقتصادية وحدها قد لا تكون كافية لتحفيز الأسر على الإنجاب. ويطالبون بتغييرات اجتماعية وثقافية أيضًا، تدعم فكرة الأسرة وتساعد في تخفيف الضغوط المالية والنفسية على الأسر.
تظهر التحليلات أن أحد أسباب التردد في الإنجاب هو القلق بشأن المستقبل، سواء من حيث الاستقرار الوظيفي أو القدرة على توفير مستقبل جيد للأطفال. لهذا، ينبغي أن تكون السياسات الحكومية شاملة وتركز على جميع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية، بدءًا من تحسين فرص العمل وحتى ضمان خدمات اجتماعية قوية ومستمرة تدعم الأسر في جميع مراحل حياتها.
سياسات مستقبلية محتملة
في ظل هذه الأزمة، من المتوقع أن تشهد إيطاليا نقاشات متزايدة حول ضرورة تبني سياسات جديدة تدعم الأسرة والإنجاب. يمكن أن تشمل هذه السياسات تقديم حوافز مالية للأسر التي تنجب أكثر من طفل، إلى جانب توفير دعم أفضل للأمهات العاملات، مثل تحسين سياسات إجازة الأمومة وضمان توفير خدمات رعاية الأطفال بشكل موسع.
كما أن تحسين ظروف العمل للشباب وتقديم فرص تعليمية أفضل قد يساعد في تغيير الوضع الحالي. فالكثير من الشباب يشعرون بعدم الاستقرار بسبب طبيعة سوق العمل المتقلبة، ويعتبرون أن الإنجاب في هذه الظروف يمثل مخاطرة كبيرة.
الأبعاد الاجتماعية والثقافية للأزمة
من الأهمية بمكان أن نفهم أن هذه الأزمة ليست مجرد مشكلة اقتصادية، بل لها أبعاد اجتماعية وثقافية عميقة. ففي العقود الأخيرة، تغيرت أنماط الحياة في إيطاليا بشكل كبير. كانت الأسرة الكبيرة هي النموذج السائد في المجتمعات الإيطالية التقليدية، لكن هذا النموذج بدأ يتلاشى تدريجيًا مع تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية. اليوم، يميل الكثير من الشباب إلى العيش بمفردهم لفترات أطول، ويؤجلون الزواج والإنجاب إلى ما بعد الثلاثينيات من العمر، وهو ما يعمق الأزمة الديموغرافية.
يعتقد بعض المحللين أن الحل الأمثل للأزمة لا يكمن فقط في تقديم حوافز مالية للأسر، بل في إعادة بناء القيم الاجتماعية التي تشجع على تكوين أسرة كبيرة والاعتزاز بذلك. إن إيطاليا بحاجة إلى إعادة التفكير في دور الأسرة في المجتمع الحديث، وإعادة الاعتبار لهذه الوحدة الاجتماعية باعتبارها الأساس الذي يقوم عليه مستقبل البلاد.
للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر